"فايننشال تايمز": ضحايا المقابر الجماعية في البوسنة ينتظرون العدالة
"فايننشال تايمز": ضحايا المقابر الجماعية في البوسنة ينتظرون العدالة
تُحيي البوسنة هذه الأيام الذكرى الثلاثين لمذبحة سربرينيتشا، وسط تصاعد حدة التوترات السياسية والانقسامات العرقية التي تعيد شبح الحرب إلى الواجهة، حيث لم تُجدِ العقود الثلاثة نفعًا في توفير العدالة الكاملة للضحايا أو في ترسيخ الاستقرار السياسي.
ووفقا لتقرير نشرته صحيفة "فايننشيال تايمز"، فرغم أن اتفاق دايتون أوقف القتال، فإن مفاعيله تهتز اليوم تحت وطأة الاستقطاب السياسي، مع تنامي النزعات الانفصالية والتدخلات الخارجية، وعلى رأسها النفوذ الروسي.
وواصل رئيس جمهورية صرب البوسنة، ميلوراد دوديك، تحديه للاتفاقات التي أنهت الحرب، ففي مارس، وبعد أيام من صدور مذكرة توقيف بحقه، سافر إلى موسكو للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعاد إليها في مايو للاحتفال بذكرى انتصار الاتحاد السوفيتي، يعكس هذا التوجه دعم الكرملين له، ما يثير قلق الأوروبيين من أن تتحول البوسنة إلى نقطة توتر جديدة في الفناء الخلفي لأوروبا.
وقال مسؤول غربي كبير إن الوضع الراهن يمثل "أكبر أزمة سياسية منذ 30 عامًا"، محذرًا من أن دوديك يمثل التهديد الأخطر لاستقرار البوسنة.
جذور النزاع
تعود جذور الأزمة الحالية إلى البنية السياسية التي كرّسها اتفاق دايتون عام 1995، حيث أنشأ كيانين: "اتحاد البوسنة والهرسك" و"جمهورية صرب البوسنة"، ومع أن الاتفاق أنهى الحرب، فإنه أبقى على انقسامات عرقية حادة، ما جعل الدولة تتنقل من أزمة إلى أخرى.
في صلب هذه الأزمة يقف دوديك، البالغ من العمر 66 عامًا، والذي صعّد من خطابه الانفصالي وخطواته الأحادية، بما يهدد بإعادة إشعال التوترات، ويخشى دبلوماسيون غربيون من أن موسكو قد تستغل هذه الانقسامات لإشاعة الفوضى مجددًا.
ذكرى إبادة سريبرينيتشا
تحل الذكرى الثلاثون لمذبحة سريبرينيتشا، التي ارتكبها صرب البوسنة في يوليو 1995، وأودت بحياة أكثر من 8000 رجل وفتى من المسلمين البوسنيين، وكانت أول إبادة جماعية تعترف بها الأمم المتحدة في أوروبا منذ الهولوكوست.
ولا تزال ألماسة ألماسة صالحوفيتش، إحدى الناجيات، إحدى الناجيات، تتذكر الألم، بعد سنوات من اختفاء شقيقها عبدالله، تلقت اتصالًا من جهة معنية بالتعرف على ضحايا المقابر الجماعية، تأكدت عبر الحمض النووي من هوية العظام، ثم عُثر لاحقًا على مزيد من رفاته.
وتعمل اليوم صالحوفيتش في مركز سريبرينيتشا التذكاري، الذي يطل على مساحة واسعة تضم أكثر من 6000 شاهد قبر.
وتشكو صالحوفيتش من تنامي ظاهرة إنكار الإبادة في منطقتها التي يهيمن عليها الصرب، تقول إن القوميين الصرب يعيدون تدوير روايات مضللة تبرر الجرائم، قائلة: "يُقال لنا دائمًا: العالم ضد الأمة الصربية"، وتخشى أن يؤدي هذا الإنكار إلى إحياء خطاب الكراهية.
يعود ذلك جزئيًا إلى دوديك، الذي سعى إلى إعادة كتابة الرواية التاريخية، وبينما كان يُنظر إليه سابقًا كصوت إصلاحي، بات اليوم من أبرز دُعاة القومية الصربية، ورفض هو وحليفه، رئيس صربيا ألكسندر فوسيتش، قرار الأمم المتحدة باعتبار 11 يوليو يومًا لإحياء ذكرى ضحايا سريبرينيتشا.
أزمة القانون والمؤسسات
رفض دوديك الاعتراف بسلطة المحكمة الدستورية والممثل الأعلى في البوسنة، وقد صدر حكم ضده بالسجن لمدة عام ومنعه من ممارسة السياسة لست سنوات، لكنه تجاهله تمامًا، ويخشى مراقبون من أن يؤدي تطبيق هذا الحكم إلى صدام مع الأجهزة الأمنية في جمهورية صرب البوسنة.
قال الممثل الأعلى الحالي، كريستيان شميدت، إن الأزمة "خطيرة ولكن قابلة للحل"، مشيرًا إلى أن دوديك يمكن هزيمته عبر صناديق الاقتراع، وهو يطمح إلى إشراف على انتقال البوسنة نحو عضوية الاتحاد الأوروبي، ما يتطلب إصلاحات واسعة تشمل تقليص دور منصب الممثل الأعلى نفسه.
ويُجمع مراقبون على أن اتفاق دايتون نجح في إنهاء الحرب، لكنه خلق بنية معقدة تعيق الإصلاح، ويرى معارضون أن الانقسامات والمؤسسات المتعددة وفرت بيئة مثالية للفساد.
وتقول غوردانا ميلادينوفيتش، منسقة حملة ضد الفساد، إن البنية الحكومية المعقدة مصممة لتكريس الفساد.
ويعاني البلد من نزيف سكاني متواصل، فقد انخفض عدد السكان من 4.2 مليون نسمة بعد الحرب إلى نحو 3 ملايين فقط.
انهيار سيادة القانون
يشير ناشطون إلى أن سيادة القانون باتت أضعف مما كانت عليه قبل عقدين، تقول إيفانا كورايليتش، من منظمة الشفافية الدولية، إن الميليشيات المحمية من قبل دوديك تُهدد المؤسسات، وأن الأزمة مستمرة بفعل غياب ردع دولي فعال.
ويضيف فرانيو توبيتش، وهو أكاديمي كرواتي بوسني، أن الوقت حان لإنهاء النظام الثنائي واستبداله بدولة مركزية، أما ميلادينوفيتش فتقول إن المصالح السياسية تمنع أي إصلاح جذري.
وفي بانيا لوكا، عاصمة جمهورية صرب البوسنة، يرفرف وجه بوتين على واجهات المقاهي، في مشهد يعكس تعاظم الخطاب الموالي لروسيا، رغم ذلك، يشكك معارضو دوديك في جدية هذا التحالف، ويعتبرونه رمزيًا أكثر منه استراتيجيًا.
ونفى دوديك رغبته في الانفصال، لكنه دفع مؤخرًا نحو استفتاء على دستور جديد، ما يعادل خطوة انفصالية، كما تبنى قوانين تقيد الإعلام والمجتمع المدني، في محاكاة لنهج بوتين وأوربان.
وستُحيى الذكرى الثلاثون لمذبحة سريبرينيتشا وسط تشاؤم واسع بشأن مستقبل البوسنة، يخشى المراقبون أن يتم التغاضي عن تصعيد دوديك، وأن تغيب الإرادة الدولية لردعه، يقول أحد أساتذة العلوم السياسية إن دوديك سيواصل الضغط حتى يحصل على مكاسب سياسية، ولن يغادر ما لم يُجبر على ذلك.
وبعد ثلاثة عقود، ما زالت العدالة غائبة عن كثير من الضحايا، وما زال الاستقرار السياسي هشًا، فيما تنزلق البوسنة إلى مأزق قد يُعيد فتح جراح الماضي.